مراحل تطور الإدارة الاستراتيجية

منذ عقود، تغيرت طريقة تفكير الشركات حول تحديد أهدافها والتحكم في مصيرها. فقد انتقلت من التركيز على العمليات اليومية إلى الاستراتيجية كركيزة أساسية لنجاحها. تطور الإدارة الاستراتيجية هو رحلة مُلهمة تُبين كيف أصبحت الشركات أكثر وعيًا بالتحديات المُحيطة بها وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات مدروسة لتحقيق أهدافها الطويلة المدى.

سيساعدنا معرفة مراحل تطور الإدارة الاستراتيجية على فهم كيف أصبحت الإدارة الاستراتيجية مُعقدة وأكثر من مجرد تخطيط طويل المدى. سنرى كيف أثرت التغيرات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية على صياغة الاستراتيجيات ونُظم الإدارة.

سنتعمق في هذه المحاضرة في تاريخ تطور الإدارة الاستراتيجية وأبز ز مراحله، والوقوف على أهم التغييرات التي شهدها هذا العلم منذ بداياته في الستينيات حتى يومنا هذا.

سنتعرف على رواد الفكر الإداري الذين ساهموا في تشكيل هذا العلم، من أنسوف إلى بورتر و مينتزبيرغ، ونستكشف مفاهيم رئيسية عدبدة كـ “الميزة التنافسية”، و”الاستراتيجيات المرنة”، و”الكفاءات الأساسية”. وسنرى كيف أثرت التحديات المتغيرة، من العولمة إلى الثورة الرقمية، على تطور مفاهيم الإدارة الاستراتيجية.

الجذور التاريخية للاستراتيجية:

تاريخيا، وفي عالم البشر، ظهرت المنافسة أولاً في الحاجة إلى الحماية والحفظ – لحماية الذات واعضاء العشيرة الآخرين من العوامل الطبيعية، و لاحقًا من أولئك الذين يحتاجون أو يُطمعون فيما لديهم. و مع استمرار طبيعة الإنسان في التغيير، ازدادت الرغبة في استخدام أوامتلاك ما ينتمي للآخرين. و غالبًا ما يتجلى هذا في شكل غارات على أراضي الآخرين، أو غارات على ممتلكاتهم. و في البداية، كان من المرجح أن تُجرى هذه المُغامرات بطريقة عشوائية و غير مُنظمة.

و مع تحسن قوى الإدراك والقدرات المعرفية للإنسان، بدأ البحث عن “طريقة أفضل” في الظهور. و تضمنت هذه الطريقة الأفضل تحقيق النتيجة المرجوة بطريقة أكثر كفاءة و فعالية. و كانت هذه الرغبة في طريقة أفضل هي أساس ما سيصبح استراتيجية، واستخدامها كـ مهارة مرغوبة بشدة. بل غيّر استخدام الاستراتيجية خريطة العالم. فقد كانت مسؤولة عن صعود و سقوط الدول و شعوبها، قبل تطبيقها على التجارة بوقتٍ طويل.

يمكن العثور على “الجذر الأصلي” لما نعرفه باسم الاستراتيجية في تاريخ الفنون العسكرية. و يُوفر النظر إلى هذه البداية الأساس لفهم أكثر شمولاً لنُشأة هذا التخصص.

البداية: الاستراتيجية – فن قتالي

نشأت أشكال الاستراتيجية المُنظمة من حاجة الناس إما للدفاع عن أنفسهم أو لهزيمة أعدائهم. إن هذا في الواقع مظهر من مظاهر المنافسة بين كيانات مُتشابهة تتطلب نفس الموارد. و في أقصى حدودها، تُقدم المنافسة نفسها كـ حرب.

 و من بين أقدم الكتابات المعروفة التي تُناقش مفاهيم الاستراتيجية كتاب “فن الحرب” لـ صن تزوالطاوي الذي كُتب حوالي عام 400 قبل الميلاد. و يُعدّ عنوان العمل مُضللًا إلى حد ما (غير صريح بتناوله للاستراتيجية) حيث أن النص يُعالج مفاهيم الاستراتيجية بطريقة أوسع بكثير من خلال الإشارة أيضًا إلى الإدارة العامة والتخطيط. و على الرغم من أن النص يُحدد نظريات المعركة، إلا أنه يتعمق أيضًا في مجال الدبلوماسية والحاجة إلى تعزيز العلاقات مع الدول الأخرى كأمر ضروري لرفاهية الدولة بشكلٍ عام.

كلمة “استراتيجية” مُشتقة من الكلمة اليونانية  “strategos”، والتي تُترجم حرفيًا بـ “جنرال”. و على هذا النحو، كان يُنظر إليها في البداية في حدود أضيق كـ “فن الجنرال”، أو “فن ترتيب” القوات.  

و يُعدّ مصطلح “strategamata” هو عنوان لعمل لاتيني قديم يُنسب إلى  . Frontius و يصف مجموعة من “strategema”، أو “الحيل الحربية”.

ويُنسب إلى الرومان أيضًا إدخال مصطلحي “stragia” في الإشارة إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة قائد عسكري، و”strategus”، في الإشارة إلى عضو في مجلس الحرب.

واحدثت الثورة الفرنسية والحروب النابليونية التي تلتها ثورة في الاستراتيجية كما طُبقت على فن الحرب. واستفاد نابليون من التقدم في تكنولوجيا التسليح وانخفاض التكاليف المُرتبطة بأدوات الحرب. ووظّف “استراتيجية الإبادة” (الأرض المُحروقة) الفعّالة بشكلٍ وحشي . وكان هدفه هو تحقيق النصر في ساحة المعركة، التدمير الكامل والشامل لخصمه، وعادةً ما حقق هذا النجاح من خلال نشر مناورات متفوقة.

وشهد القرن التاسع عشر بداية حقبة جديدة في الحرب، وبالتالي في تطوير الاستراتيجية. وابرز المساهمين في ذلك الوقت هم كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831) وانطوان جوميني (1779-1869). واكد عمل كلاوزفيتز الرائد، “عن الحرب”،  على العلاقة الوثيقة بين الحرب والسياسة الوطنية. و شدد على أهمية مبادئ الكتلة، واقتصاد القوة، و تدمير قوات العدو. و في المُقابل، ركز جوميني على احتلال أراضي العدو من خلال مزيج من المناورات الهندسية المُخططة بعناية والسريعة والدقيقة.

الاستراتيجية في مجالات متعددة

والاستراتيجية العسكرية لا تعني استخدام القوة فقط والتهديد باستخدامها، وهي لا تهتم بالحرب فقط ولكن أيضاً بالسلام الذي يتبع الحرب، وهنا تظهر بكل وضوح مشكلة العلاقة بين السياسة والاستراتيجية التي لم تعد وقفاً على العسكريين بل أصبحت فناً يزاوله الجميع، وبالتالي أصبح يطلق على “الاستراتيجية” فن استخدام القوة للوصول إلى أهداف سياسية.

و كان القرن التاسع عشر حقبة من التغييرات التكنولوجية واسعة النطاق التي غيّرت بشكلٍ جذري نطاق ومدى كل من التكتيكات والاستراتيجية. ووسعت السكك الحديدية والسفن البخارية حجم ومدى وسرعة التعبئة. وربطت الاتصالات التلغرافية مسارح العمليات المُتوسعة، وبالتالي جعلت الاستراتيجية والتكتيكات واسعة النطاق ممكنة وضرورية. ولم يزد تأثير التكنولوجيا إلا منذ أواخر القرن العشرين. وبذلك انتقل مفهوم “الاستراتيجية” من المجال العسكري إلى مجال الأعمال في بداية الستينيات. وتوضح إسهامات الكتاب في مجال الإدارة الاستراتيجية أن الفكر الإداري في هذا المجال قد تطور من خلال عدة مراحل .

الجذور التاريخية لـ ” تطور الإدارة الاستراتيجية”:

لفهم تطور الادارة الاستراتيجية بشكل افضل ، سنقول بتتبع تطورها خطوة بخطوة ومرحلة بمرحلة ، مع وصف عام للفترة و إبراز أهم المساهمات التي شكلت مسار الإدارة الاستراتيجية في تلك الفترة، ووصولا الى التحديات التي واجهتها وقتئذ.  فيما يلي  شرح لهذه المراحل:

عصر الستينيات وولادة إدارة المستقبل

شهدت ستينيات القرن العشرين تحولًا جذريًا في الفكر الإداري، حيث انتقلت الشركات من التركيز على العمليات اليومية إلى التفكير الاستراتيجي طويل المدى. بدأت هذه الفترة بما يُعرف بـ“التخطيط طويل المدى”، والذي كان امتدادًا للميزانية السنوية مع إضافة بُعد زمني أطول.

كان الهدف الأساسي هو التنبؤ بالمستقبل والسيطرة عليه من خلال خطط استقرائية تعتمد على افتراضات نمو تدريجي.

 مع مرور الوقت، تحول التركيز من مجرد تمديد الميزانية إلى إضفاء محتوى استراتيجي أكثر فعالية على هذه الخطط، مما مهد الطريق لظهور مفهوم “التخطيط المؤسسي“.

المساهمات البارزة في هذه المرحلة:

برزت عدة مساهمات بارزة شكلت مسار الإدارة الاستراتيجية في تلك الفترة:

  1. معهد ستانفورد للأبحاث (SRI): لعب المعهد دورًا محوريًا في تطوير الفكر الاستراتيجي من خلال تقديم خدمة اشتراك للأعضاء تضمنت تقارير سرية تتناول طرق التفكير في أنواع الخطط المختلفة، مناقشة العملية التخطيطية، وتقديم رؤى حول أساليب التحليل الاستراتيجي المبكرة. ركزت هذه التقارير على الاستراتيجية، مما دفع بالتفكير إلى أبعد من مجرد الميزانية الاستقرائية، وساهمت بشكل كبير في تحويل التخطيط من عملية مالية بحتة إلى عملية استراتيجية متكاملة.
  2. إيغور أنسوف (1965): يُعتبر أنسوف أحد رواد التخطيط الاستراتيجي، حيث قدم في كتابه “الاستراتيجية المؤسسية” إطارًا عامًا ومنهجية لصياغة الاستراتيجية. ركز أنسوف على تحليل الفجوة بين الوضع الحالي للشركة وأهدافها المستقبلية، وطرح مفهوم “الفجوة الاستراتيجية” التي تحتاج إلى سدّها من خلال التخطيط والتنفيذ الفعالين. أصبح كتاب أنسوف مرجعًا أساسيًا في برامج إدارة الأعمال، ولا يزال يُعتبر من الأعمال الكلاسيكية في مجال الإدارة الاستراتيجية.
  3. ميريت وسايكس(1963): ساهما بشكل كبير في تطوير وتعميم نهج التدفق النقدي المخصوم كأداة لتحليل المشاريع الاستثمارية. على الرغم من أن هذه التقنية كانت موجودة قبل ذلك، إلا أن ميريت وسايكس ساهما في تبسيطها وتطبيقها في سياق اتخاذ القرارات الاستراتيجية، مما ساعد الشركات على تقييم جدوى المشاريع الاستثمارية طويلة الأجل بشكل أكثر دقة.
  4. بيتر دراكر: على الرغم من أن دراكر لم يستخدم مصطلح “إدارة استراتيجية” بشكل صريح، إلا أن أعماله، مثل كتاب “ممارسة الإدارة” (1954)، ساهمت بشكل كبير في تشكيل الفكر الاستراتيجي في الستينيات. ركز دراكر على أهمية تحديد رسالة المنظمة وأهدافها، وفهم البيئة الخارجية، وتطوير نقاط القوة المميزة للشركة. أكد أيضًا على دور الإدارة في “صنع المستقبل” بدلاً من مجرد التكيف معه، مما أثر في مفاهيم التخطيط الاستراتيجي اللاحقة.
  5. تطور أدوات التحليل : شهدت ستينيات القرن العشرين تطويرًا ملحوظًا لأدوات التحليل الاستراتيجي، مثل تحليل الفجوة، وظهور تقنيات البحث العملياتي، وتقنيات التنبؤ التكنولوجي. ساهمت هذه الأدوات في تحويل التخطيط من عملية تعتمد على الحدس والتخمين إلى عملية أكثر منهجية وعقلانية.
نص بديل: صورة تعرض عصر مبكر ل "تطور الإدارة الاستراتيجية" ، مع أيقونات رجعية تمثل التخطيط المؤسسي والأهداف التنظيمية من الستينيات والسبعينيات.
نص بديل: صورة تعرض عصر مبكر ل “تطور الإدارة الاستراتيجية” ، مع أيقونات رجعية تمثل التخطيط المؤسسي والأهداف التنظيمية من الستينيات والسبعينيات.

انتقادات وقصور:

على الرغم من التقدم الكبير الذي تحقق في مجال التخطيط الاستراتيجي في الستينيات، إلا أن هذا النهج واجه بعض التحديات والقيود:

– كان الافتراض الضمني وراء الكثير من التفكير هوان المستقبل سيتبع نمطًا تدريجيًا، مما قلل من استعداد الشركات للتعامل مع التغيرات المفاجئة والانقطاعات.

– كما ركزت العملية التخطيطية بشكل كبير على إعداد الخطة الرسمية، مما أدى في بعض الأحيان إلى بيروقراطية معقدة أعاقت التفكير الاستراتيجي الحقيقي.

– بالإضافة إلى ذلك، كان التركيز منصبًا على صياغة الاستراتيجية أكثر من تنفيذها، مما أدى إلى فجوة بين التخطيط والتنفيذ.

على الرغم من هذه القيود، مثلت ستينيات القرن العشرين نقطة تحول حاسمة في تطور الإدارة الاستراتيجية، حيث وضعت الأساس للمفاهيم والأساليب الأكثر تطورًا التي ظهرت في العقود اللاحقة. لقد ساهمت هذه الفترة في تحويل الفكر الإداري من التركيز على الحاضر إلى التركيز على المستقبل، ومن إدارة العمليات إلى إدارة التغيير والابتكار.

السبعينيات: التركيز على البيئة الخارجية والمنافسة

شهدت السبعينيات تحولًا ملحوظًا في مفهوم التخطيط، حيث تم التركيز بشكل أكبر على “التخطيط الاستراتيجي” بدلاً من مجرد “التخطيط المؤسسي”. أصبحت الشركات أكثر وعياً بأهمية الاستراتيجية كمحرك رئيسي للعملية التخطيطية، مع إيلاء اهتمام أكبر للبيئة الخارجية، والعملاء، والأسواق. شهدت هذه الفترة أيضًا تطوير أدوات وتقنيات تحليلية متقدمة لمعالجة التحديات المتزايدة التي تواجهها الشركات في عالم متغير.

المساهمات البارزة في هذه المرحلة:

  • مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG): ساهمت BCG  بشكل كبير في تشكيل التفكير الاستراتيجي في هذه الفترة، وخاصة من خلال تطوير مفهوم “تحليل المحفظة”(Portfolio Analysis) . طبقت BCG هذه التقنية في شركة جنرال إلكتريك، حيث تم تصنيف أنشطة الشركة المختلفة إلى “مربعات” بناءً على معدل نموالسوق و حصة الشركة في السوق. أتاح هذا التحليل للشركات تقييم الأهمية الاستراتيجية النسبية لأنشطتها المختلفة واتخاذ قرارات استراتيجية بشأنها، مثل الاستثمار أوالتخارج.
  • شركة ماكينزي: طور خبراء ماكينزي مفهوم “إطار العمل 7S  ، (7S Framework)  الذي يركز على سبعة عناصر أساسية لنجاح المنظمة: الاستراتيجية، الهيكل، الأسلوب، الأشخاص، المهارات، الأنظمة، والقيم المشتركة. أعطى هذا الإطار أهمية للثقافة والتفاعلات بين العناصر المختلفة في تحقيق النجاح الاستراتيجي، مما أثر في التركيز على الجوانب السلوكية للإدارة الاستراتيجية.
  • برنامج PIMS  (تأثير الربحية على استراتيجية السوق):  طور هذا البرنامج في جنرال إلكتريك ثم انتقل إلى هارفارد في عام 1972. جمع PIMS بيانات من شركات مختلفة لتقييم تأثير الاستراتيجيات على الربحية وتحديد العوامل الأساسية للنجاح في الأسواق المختلفة. ساهم PIMS في توفير رؤى أعمق للعلاقات السببية بين الاستراتيجيات والأداء للشركات.
  • مايكل بورتر (1980): برز مايكل بورتر كواحد من أهم منظري التخطيط الاستراتيجي في السبعينيات. قدم مساهمات أساسية في تحليل الصناعة وتحليل المنافسين. أكد بورتر على أهمية فهم القوى التنافسية الأساسية الفعالة في الصناعة ووضع استراتيجيات من شأنها أن توفر للشركة ميزة تنافسية مستدامة .

تطور الفكر الاستراتيجي خلال هذه المرحلة:

  • التركيز على التنافس: شهدت السبعينيات تحولًا كبيرًا في تركيز الشركات من التركيز على النموالداخلي إلى التركيز على المنافسة الخارجية. أصبح التنافس عاملًا رئيسيًا في نجاح الشركات، و بدأ ظهور مفاهيم مثل “الميزة ال تنافسية” و “استراتيجيات التمايز” و “استراتيجيات التركيز“.
  • التفكير في البيئة الخارجية: أصبح فهم البيئة الخارجية عاملًا أساسيًا في التخطيط الاستراتيجي. أصبحت الشركات أكثر وعيًا بالتغيرات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية الفاعلة في بيئة العمل وأثرها على نجاح الشركات.
  • تطوير الأدوات التحليلية: أدت التغيرات السريعة في بيئة العمل إلى حاجة لأدوات أكثر تقدمًا لتحليل المعلومات واتخاذ القرارات الاستراتيجية. برزت أدوات مثل “تحليل المحفظة” و”تحليل الصناعة” و”تحليل المنافسين”.
  • التركيز على الاستراتيجيات المالية: أصبح الاستثمار والتمويل من الموضوعات الأساسية في التخطيط الاستراتيجي في السبعينيات. ركزت الشركات على التحكم بالاستثمار والسيطرة على النفقات وتطوير استراتيجيات مالية ملائمة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.

التحديات التي واجهت التخطيط الاستراتيجي :

  • صعوبة التنبؤ: تغيرات بيئة العمل أصبحت أكثر سرعة وتعقيدًا، مما جعل من الصعب التنبؤ بالمستقبل ووضع خطط استراتيجية فعالة للطويل الأجل.
  • التركيز على التحليل: ركز التخطيط الاستراتيجي في السبعينيات بشكل كبير على الأدوات التحليلية، مما أدى في بعض الأحيان إلى إهمال الجوانب السلوكية المهمة لنجاح الاستراتيجيات.
  • صعوبة التنفيذ: ظلت فجوة بين التخطيط والتنفيذ الاستراتيجيين، حيث لم تكن الشركات قادرة دائمًا على تطوير الأنظمة التنظيمية والثقافة المنظمة الملائمة لتنفيذ الاستراتيجيات المختارة.
تصور الشخصيات الرئيسية التي شكلت الإدارة الاستراتيجية، مثل إيغور أنسوف ومايكل بورتر وهنري مينتزبيرج، ومفاهيمهم المؤثرة.
تصور الشخصيات الرئيسية التي شكلت الإدارة الاستراتيجية، مثل إيغور أنسوف ومايكل بورتر وهنري مينتزبيرج، ومفاهيمهم المؤثرة.

الإدارة الاستراتيجية (الثمانينات والتسعينات):

شهدت الثمانينات والتسعينيات تحولًا ملحوظًا في مفهوم الإدارة الاستراتيجية، حيث انتقل التركيز من مجرد التخطيط إلى التركيز على الإدارة الشاملة، مع التركيز على التنفيذ والرقابة والعناصر الداخلية للمنظمة، مثل الأسلوب والهيكل والثقافة. أصبحت الإدارة الاستراتيجية عملية ديناميكية تشمل جميع جوانب المنظمة وتسعى إلى خلق المستقبل بدلاً من مجرد التنبؤ به.

المساهمات البارزة في هذه المرحلة:

  • إيغور أنسوف (1972): صاغ أنسوف مصطلح “الإدارة الاستراتيجية” وأكد على أهمية دور المديرين العامين في قيادة التغيير الاستراتيجي. شدد أنسوف على أن الإدارة الاستراتيجية تتجاوز عملية التخطيط لتشمل التنفيذ والرقابة، وتُعنى بإدارة المنظمة ككل لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.
  • جيمس كوين (1980): طور كوين مفهوم “التدرج المنطقي الاستراتيجي لذي يركز على التطوير التدريجي للاستراتيجية بناءً على الخبرات والنتائج السابقة. أكد كوين على أهمية التعلم من التجارب وتكييف الاستراتيجيات بمرور الوقت والظروف المتغيرة.
  • كينيشي أوماي(1982): أكد أوماي على أهمية “التفكير الاستراتيجي الذي يجمع بين التحليل والحدس في صياغة الاستراتيجيات. أكد أوماي على أن الاستراتيجيات الناجحة لا تنشأ فقط من التحليل الدقيق، بل من “عقلية” تستطيع أن ترى الصورة الأوسع وتفكر بشكل مبتكر.
  • توماس بيترز وروبرت واترمان (1982): كتاب “في البحث عن التميز” (In Search of Excellence) لبيترز وواترمان سلط الضوء على أهمية الثقافة والقيم في نجاح المنظمات. درس الكتاب شركات ناجحة وحدد العوامل المشتركة بينها، مثل التركيز على العملاء، والمرونة والتكيف، والقيادة الملهمة والالتزام بالجودة.
  • هنري مينتزبيرغ (1985): ميز مينتزبيرغ بين “الاستراتيجيات المتعمدة/المقصودة ” (Deliberate Strategies)  و”الاستراتيجيات الناشئة” (Emergent Strategies).     أكد مينتزبيرغ على أن الاستراتيجيات لا تكون دائمًا مخططه بشكل كامل، بل يمكن أن تنشأ من الظروف والتغيرات غير المتوقعة في البيئة.

التغيرات الرئيسية في الإدارة الاستراتيجية

  • التركيز على التنفيذ: أصبحت الشركات أكثر وعيًا بأهمية تنفيذ الاستراتيجيات بشكل فعال. ظهرت مفاهيم مثل “إدارة التغيير”   و”القيادة التحويلية”  لمساعدة الشركات في تنفيذ التغيرات الاستراتيجية الكبيرة.
  • التركيز على الثقافة : أصبحت ثقافة المنظمة عاملًا أساسيًا في نجاح الاستراتيجيات. أدركت الشركات أهمية تطوير ثقافة تسهل على الموظفين التكيف والابتكار والالتزام بالجودة.
  • التركيز على الابتكار : أصبح الابتكار عاملًا مهمًا للتنافسية. أصبحت الشركات أكثر استعدادًا للتكيف وتطوير منتجات وخدمات جديدة ومساعدة العملاء بشكل أفضل.
  • التركيز على العولمة : أصبحت العولمة عاملًا مهمًا في الإدارة الاستراتيجية. أدركت الشركات أهمية توسيع نطاق أعمالها للتنافس في الأسواق العالمية وتطوير استراتيجيات ملائمة للتغيرات الثقافية والقانونية الجديدة.

التحديات التي واجهت الإدارة الاستراتيجية

  • صعوبة تقييم الثقافة:  تقييم ثقافة المنظمة وتغييرها عملية معقدة. تواجه الشركات صعوبة في تحديد العوامل الثقافية المهمة للتنافسية وتطوير استراتيجيات ملائمة لتغيير هذه العوامل.
  • صعوبة تنفيذ التغيرات: تنفيذ التغيرات الاستراتيجية الكبيرة عملية مهمة تتطلب تغيير سلوك وثقافة الموظفين. تواجه الشركات صعوبة في تطوير خطط تنفيذ فعالة ومساعدة الموظفين على التكيف مع التغيرات الجديدة.
  • صعوبة التكيف مع التغيرات: التغيرات السريعة في بيئة العمل تتطلب من الشركات أن تكون أكثر تكيفًا وقادرة على التكيف مع التغيرات الجديدة. تواجه الشركات صعوبة في تطوير أنظمة تكيف وتعلم ملائمة للتغيرات السريعة.

ما بعد الإدارة الاستراتيجية: مواجهة التحديات المعاصرة

دخلت الإدارة الاستراتيجية في الألفية الجديدة مرحلة جديدة، مع التركيز على تطوير مفاهيم أكثر ديناميكية ومرونة للتكيف مع التحديات المعاصرة. أصبحت بيئة العمل أكثر تعقيدًا وسرعة تغير، وظهرت تحديات جديدة مثل العولمة السريعة، وتطور تكنولوجيا المعلومات والاتصال، والتغيرات المناخية والتحديات الاجتماعية والاقتصادية الجديدة.

المساهمات البارزة في هذه المرحلة:

  • إيغور أنسوف (1985): طور أنسوف مفهوم “النهج الطارئ” (Contingency Approach) الذي يربط بين الاستراتيجيات والإدارة ومستوى اضطراب البيئة. أكد أنسوف على أنه لا يوجد نهج واحد يناسب جميع المنظمات، ويجب على الشركات تكييف استراتيجياتها مع ظروفها الخاصة.
  • كاثلين إم آيزناردت (1989): طورت آيزناردت مفهوم “الاستراتيجية المرنة ” (Strategic Flexibility)   الذي يشدد على أهمية تطوير الاستراتيجيات القابلة للتكيف مع التغيرات السريعة في البيئة. أكدت آيزناردت على أهمية التكيف والابتكار والتعلم من الأخطاء في الوصول إلى النجاح الاستراتيجي.
  • أري دي جيوس (1997): قام دي جيوس بتطوير مفهوم “الاستراتيجية المرنة” كذلك. أكد دي جيوس على أهمية تطوير الاستراتيجيات القابلة للتكيف مع التغيرات السريعة في البيئة وتحويل المنظمات إلى “المنظمات المتعلمة”  القادرة على التعلم والتكيف بشكل مستمر.
  • غاري هاميل وسي. كي. براهالاد (1994): أكد هاميل وبراهالاد على أهمية “الكفاءات الأساسية” كمصدر للميزة التنافسية. أكد الكتاب على أن الشركات يجب أن تركز على تطوير المهارات والقدرات الأساسية التي تميزها عن المنافسين.
  • جيمس كويين وسي. كي. براهالاد (1996): قدم كويين وبراهالاد مفهوم “التنافس من أجل المستقبل”  الذي يحث الشركات على التفكير بشكل مبتكر في المستقبل وتطوير الاستراتيجيات التي تؤثر في شكل الصناعة وتصوغ القواعد التنافسية الجديدة.

التغيرات الرئيسية في الإدارة الاستراتيجية خلال هذه المرحلة:

  • التركيز على المرونة: أصبحت الشركات أكثر وعيًا بأهمية تطوير الاستراتيجيات القابلة للتكيف مع التغيرات السريعة في البيئة. أدت العولمة السريعة وتطور التكنولوجيا المعلومات والاتصال إلى تغيير أنماط العمل والتنافس بشكل مستمر.
  • التركيز على الابتكار: أصبح الابتكار عاملًا أساسيًا في نجاح الاستراتيجيات. يسهل الابتكار للشركات تطوير منتجات وخدمات جديدة وتحويل أنماط العمل والتنافس بشكل مستمر.
  • التركيز على الاستدامة: أصبحت الاستدامة عاملًا مهمًا في الإدارة الاستراتيجية. تساعد الشركات على تطوير الاستراتيجيات التي تؤثر بشكل إيجابي على البيئة والمجتمع وتساهم في التنمية المستدامة.
  • التركيز على القيمة: أصبحت الشركات أكثر وعيًا بأهمية توفير القيمة للعملاء. تساعد الشركات على تطوير منتجات وخدمات مميزة وتساهم في تحسين تجارب العملاء.

التحديات التي واجهت الإدارة الاستراتيجية

  • صعوبة التنبؤ: تغيرات بيئة العمل أصبحت أكثر سرعة وتعقيدًا، مما جعل من الصعب التنبؤ بالمستقبل ووضع خطط استراتيجية فعالة للطويل الأجل.
  • صعوبة التكيف: تتطلب التغيرات السريعة في البيئة من الشركات أن تكون أكثر تكيفًا وقادرة على التكيف مع التغيرات الجديدة. تواجه الشركات صعوبة في تطوير أنظمة تكيف وتعلم ملائمة للتغيرات السريعة.
  • صعوبة التحويل: تواجه الشركات صعوبة في تحويل أفكارها وثقافتها وأنظمتها للتكيف مع التغيرات السريعة والتحديات الجديدة. تواجه الشركات صعوبة في تطوير القدرة على التعلم والتكيف بشكل مستمر وتحويل إلى “المنظمات المتعلمة”.
صورة تمثل العصر الحديث للإدارة الاستراتيجية، مع أيقونات للتكيف والعولمة، بما في ذلك الكرة الأرضية، والأجهزة الرقمية، واتصالات الشبكة.
صورة تمثل العصر الحديث للإدارة الاستراتيجية، مع أيقونات للتكيف والعولمة، بما في ذلك الكرة الأرضية، والأجهزة الرقمية، واتصالات الشبكة.

الإدارة الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين

تواجه الإدارة الاستراتيجية في القرن الحادي والعشرين تحديات جديدة غير مسبوقة، حيث تتسم البيئة العالمية بالتعقيد وسرعة التغيير والغموض الكبير. أصبحت التكنولوجيا المعلومات والاتصال عاملًا مهمًا في تشكيل أنماط العمل والتنافس، وتساهم في ظهور أنماط جديدة للتنافس، مثل التجارة الإلكترونية والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي.

المساهمات البارزة في هذه المرحلة:

ساهم العديد من الخبراء في تطوير مفهوم الإدارة الاستراتيجية في عصر الفوضى، من بينهم:

  • نيكولاس ديجون 2000: قدم مفهوم “الاستراتيجية الفوضوية” الذي يشدد على أهمية التكيف مع الظروف غير المتوقعة.
  • أري دي جيوس 2009: طور مفهوم “التحويل الرقمي” الذي يشدد على أهمية تطوير الاستراتيجيات الرقمية.
  • غاري هاميل وسي. كي. براهالاد 2012 قدموا مفهوم “التنافس للكل” الذي يشير إلى أهمية تطوير استراتيجيات شاملة تغطي جميع جوانب الأعمال.

التغيرات الرئيسية في الإدارة الاستراتيجية

  • التركيز على المرونة: أصبحت الشركات أكثر وعيًا بأهمية تطوير الاستراتيجيات القابلة للتكيف مع التغيرات السريعة وغير المتوقعة في البيئة. تسعى الشركات لأن تكون أكثر مرونة وقادرة على التكيف مع التغيرات السريعة في التكنولوجيا وأنماط العمل.
  • التركيز على الرقمية: أصبحت الرقمنة عاملًا أساسيًا في نجاح الاستراتيجيات. تسعى الشركات إلى تطوير الاستراتيجيات الرقمية التي تؤثر في أعمال الشركات بشكل مستمر وتساهم في تحويل المنظمات إلى “المنظمات الرقمية”.
  • التركيز على الذكاء الاصطناعي: أصبح الذكاء الاصطناعي عاملًا مهمًا في تشكيل أنماط العمل والتنافس. تسعى الشركات إلى تطوير الاستراتيجيات التي تستفيد من الذكاء الاصطناعي لتحسين الأداء وفعالية الأعمال.
  • التركيز على الاستدامة: أصبحت الاستدامة عاملًا مهمًا في الإدارة الاستراتيجية. تسعى الشركات إلى تطوير الاستراتيجيات التي تؤثر بشكل إيجابي على البيئة والمجتمع وتساهم في التنمية المستدامة.

التحديات التي تواجه الإدارة الاستراتيجية

  • صعوبة التنبؤ: تغيرات بيئة العمل أصبحت أكثر سرعة وتعقيدًا، مما جعل من الصعب التنبؤ بالمستقبل ووضع خطط استراتيجية فعالة للطويل الأجل.
  • صعوبة التكيف: تتطلب التغيرات السريعة في البيئة من الشركات أن تكون أكثر تكيفًا وقادرة على التكيف مع التغيرات الجديدة. تسعى الشركات إلى تطوير أنظمة تكيف وتعلم ملائمة للتغيرات السريعة.
  • صعوبة التحويل: تواجه الشركات صعوبة في تحويل أفكارها وثقافتها وأنظمتها للتكيف مع التغيرات السريعة والتحديات الجديدة. تسعى الشركات إلى تطوير القدرة على التعلم والتكيف بشكل مستمر والتحويل إلى “المنظمات المتعلمة”.
  • صعوبة التعامل مع التكنولوجيا: تسعى الشركات لأن تكون قادرة على التكيف مع التكنولوجيا الجديدة وتطوير الاستراتيجيات التي تستفيد من هذه التكنولوجيا بشكل فعال.

الخاتمة:

إن رحلتنا عبر تاريخ ومراحل تطور الإدارة الاستراتيجية، تُثري فهمنا لِما تُمثله هذه الاستراتيجية و كيف تُمكن المؤسسات من تحقيق النجاح في عصر متغير بسرعة.

بدأنا أولا بتتبع الجذور التاريخية للاستراتيجية التي بدأت فنا قتاليا واستخدمت لاحقا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها وصولا الى ادارة الاعمال.

اما عن تطور الادارة الاستراتيجية فقد بزغت شمسه وبدأت من التخطيط الطويل المدى في الستينيات، الذي ركز على التنبؤ بالمستقبل من خلال خطط استقرائية. ثم شهدنا تحولًا في السبعينيات نحو التركيز على البيئة الخارجية والتنافس، مع ظهور أدوات تحليلية كـ “مصفوفة بوسطن” لتحليل المحفظة الاستثمارية، و”إطار 7S” لماكينزي، وبرنامج PIMS، وإسهامات مايكل بورتر في تحليل الصناعة والمنافسة.

في الثمانينات والتسعينيات، شهد الفكر الاستراتيجي تحولًا نحو الإدارة الشاملة، مع التركيز على التنفيذ والتحكم في العناصر الداخلية للمنظمة، مثل الأسلوب والمهارات والتقنيات والتنفيذ.

في الألفية الجديدة، أصبح التكيف مع التغيرات السريعة ومواكبة التكنولوجيا أهم عامل للنجاح. تطورت مفاهيم “الاستراتيجية المرنة”، و”الكفاءات الأساسية”، و”التنافس من أجل المستقبل” لتعكس هذا الواقع.تُبين هذه الرحلة أن الإدارة الاستراتيجية تُمثّل أداة مُتطورة باستمرار، تُساعد المؤسسات على تحقيق أهدافها في عالم سريع التغير، مع ضرورة الاستعداد للّتعلم والتكيف مُستمرًا.